مدخل الى عالم ما بعد القطبيه

‏اذا كان نظام القطب المهيمن الامريكي الأوحد أصابه الضعف وبدأ وكأنه إلي انحدار تدريجي‏,‏ فكيف يمكن تصور ما سوف يليه ؟ أو بعبارة أدق‏:‏ كيف يمكن ان تكون معالم النظام العالمي الانتقالي خلال السنوات القادمة؟ وإذا كان تصور عالم جديد يتسم بتعدد الأقطاب والمراكز والثقافات وارد في الأفق لدي قطاع يتسع باطرد للرأي العام‏,‏ وكذا للخبراء والساسة في أركان المعمورة‏,‏ وحتي في قلب دوائر الفكر الجيوسياسي في الولايات المتحدة اذا كان الأمر علي هذا النحو‏,‏ وهو كذلك ينتقل التساؤل إلي أنماط وأشكال هذا الجديد وفي كلمة‏..‏ كيف تكون مرحلة الانتقال؟

أولا ـ نقطة البدءاذن هي أننا بدأنا نخطو علي مسارات مرحلة تاريخية جديدة اتفقنا علي وصفها بأنها انتقالية ـ فهل يمكن تحديد عدد من المعالم المرتقبة؟

بما أن نمط هيمنة القطب الأوحد دخل إلي غروب‏,‏ فإن ذلك يعني أن هناك مقومات من أنواع مختلفة يمكن تلخيصها في رسالة واحدة‏,‏ واضحة ألا وهي‏:‏ أن امتلاك القوة لايضمن النفوذ‏,‏ دعنا من الانتصار‏,‏ عنصر المقاومة الأول‏,‏ إنما يكمن في مجرد تعدد اللاعبين‏,‏ أي الدول المحيطة‏,‏ سواء أكانت من قطاع الحلفاء أو التوابع‏,‏ أو من تلك التي تسعي إلي مكانة واضحة أو بعث جديد‏,‏ دعنا من الشروع إلي مكانة عالمية تنافس الولايات المتحدة أو تهدف إلي فرض الشراكة معها‏,‏ دول مثل بريطانيا والمانيا‏,‏ أو دول التبعية في معظم الشرق الأوسط الكبير‏,‏ في مقابل عودة روسيا وطموح البرازيل والهند واليابان‏,‏ و الصعود السلمي للصين العملاقة الحريصة علي تحقيق مجتمع متناغم‏.‏

ثانيا ـ أمواج التغيير والتجديد تسعي إلي ادراك معالم العلاقة بين طاقاتها القومية الذاتية من ناحية وبين الامكانات المتاحة آنيا وفي المستقبل الوسط من حيث وفرة الطاقة وآثار تدهور البيئة وأثر ذلك علي تصور الناس في مختلف مجتمعاتهم عن الحياة المثلي وتأرجحها بين سيادة عولمة وأخلاقيات السوق والتفرد من ناحية أو التمسك بمعاني المشروع القومي والتماسك والمجتمعي والتضامن‏,‏ وأثر هذا كله علي كثافة السكان في مختلف البلدان المعنية‏.‏

ثالثا ـ ولذا يطرح الخبراء هذه الأيام عددا من التصورات عن نوعية النظم الانتقالية المرتقبة‏,‏ ومنها علي سبيل التمثيل دون الحصر‏,‏ ان نظام العالم في المرحلة القادمة لن يكون هو النظام أحادي القطبية ولا النظام متعدد الأقطاب‏,‏ وإنما نظام يمكن تسميته بأنه نظام ما بعد القطبية انه النظام الذي بدأ يشهد تواجد‏190‏ دولة قومية‏(‏ أي أمة‏)‏ بعد تاريخ طويل من التبعية الاستعمارية‏,‏ ثم ما نشهده من ظهور منظومات اقليمية تسعي إلي الشراكة الاقتصادية بل وإلي أمنها الجماعي‏,‏ هذا إلي جانب بعض القوي المؤثرة خارج منظومة الدول‏,‏ سواء الاحتكارات عابرة القارات أو موجات التخويف بالارهاب وكذا مؤسسة مثل موسسة جيتس للصحة العالمية‏.‏

رابعا‏:‏ ويشير الخبراء إلي أن قوي التفكيك سوف تكون أقوي من نظام الهيمنة‏,‏ ومعني ذلك أن التوتر بين روسيا والغرب لن يكون حربا باردة جديدة‏,‏ وإنما هو جو من الجفاء وصف الرئيس بوتين معالمه في كلمته إلي مؤتمر أمن ميونيخ‏(‏ فبراير‏2007)‏ بأنه يتفادي المبالغة في الأدب وكذا ضرورة التحدث بعبارات دبلوماسية دائرية لطيفة ولكنها فارغة‏.‏ أما التناقض الرئيسي مع الصين فمن المرتقب أن يتخذ صيغة التنافس الحاد في اطار تعايش يتفادي الصدام العسكري‏,‏ مع الحرص علي ابقاء حدة الخلاف حول مستقبل تايوان في هذا الاطار‏.‏

القائمة تطول تمتد من البرازيل إلي اليابان‏,‏ من الاتحاد الأوروبي إلي الهند‏,‏ من فنزويلا إلي إيران ـ سوف نعود إليها‏,‏ وان كانت لاتفرض قيام نمط مغاير للعلاقات الدولية‏,‏ باستثناء تصعيد التهديد الأمريكي لايران‏,‏ في مقابل صعود تركيا بقيادة اردوجان وجول تقدم نمطا جديدا للتعايش والعقلانية السياسية المتحضرة‏.‏

القوة لاتضمن النفوذ‏:‏ الأقوياء‏,‏ أي القوة العظمي الأحادية‏,‏ دخلت إلي مرحلة لاتستطيع فيها ان تفعل ذلك الذي تملك القوة علي فعله‏,‏ رغم ان الميزانية العسكرية الأمريكية تفوق مجموع ميزانيات الدول الخمس عشرة التالية لها مجتمعة‏,‏ بينما يمثل اقتصادها نحو‏25%‏ من اجمالي الناتج العالمي‏,‏ وبالتالي فلم يعد محكوما علي الضعفاء أن يقبلوا ذلك الذي عليهم أن يقبلوه‏.‏

هنا يكمن الفارق بين القوة من ناحية‏,‏ والنفوذ من ناحية أخري‏,‏ والنفوذ له مكونات وظروف‏,‏ ومن بينها الاقتناع بتفوق الغير‏,‏ أو القطب المهيمن‏,‏ ولكن من أين الاقتناع بعد انكسار حلم الهيمنة الأمريكية في العراق‏,‏ فضلا عن مأزق أفغانستان؟ الحليف البريطاني الأقرب والأوحد ينسحب من البصرة وجنوب العراق تدريجيا‏,‏ هذا بينما يجمع كبار خبراء الولايات المتحدة ـ كما أوضحنا تكرارا علي لسان الجنرال سكوكروفت ـ علي أن الخطر الاكبر في انسحاب القوات الأمريكية من العراق‏,‏ إنما هو أن هذا الانسحاب لن يسجل هزيمة ميدانية جارحة وإنما سوف يصيب النفوذ الأمريكي بتدهور علي مستوي العالم أجمع قد يصل إلي حد النكسة‏,‏ ومن هنا توالي العنتريات حول نجاح مخطط التصعيد علي أيدي الجنرال بترايوس ثم ارتفاع حدة الهجوم ضد ايران إلي حد تهديدها بحرب مدمرة قبل خروج الرئيس الأمريكي من الحكم بعد شهور‏.‏

دراسة الجديد‏:‏ ما الغرض من تقديم هذه التصورات عن مرحلة ما بعد القطبية الأحادية؟ الغرض كالعادة واضح في حد ذاته ألا وهو تقديم آخر التطورات في ساحة الفكر العالمي‏,‏ ولعل حاجتنا أصبحت ملحة أكثر من اي وقت مضي للصحوة‏,‏ بل والافاقة من سنوات ساد فيها لدي النبهاء تصور أن العالم في نهاية تاريخه‏,‏ وأن النظام العالمي قد استقر بين يدي الحليف الأكبر وأنه لاداعي للاجتهاد‏.‏وعندنا ان الاجتهاد واجب وطني وعلينا ان نركز الاهتمام علي القوي العظمي الكبري الصاعدة خاصة الصين وكذا روسيا ولكن هذا التركيز لايكفي ذلك ان ساحة التجمعات الاقليمية‏,‏ التي رأينا وصفها بأنها الدوائر الجيوثقافية هي التي يجب التركيز عليها مادامت مصر في قلب الدائرة العربية منظمة شنجهاي للتعاون ذات الأهمية المتصاعدة‏,‏ وان كنا في شبه غيبوبة عنها منظمة آسيان لامم جنوب شرقي اسيا‏,‏ وكذا منظمة دول أمريكا اللاتينية الجنوبية‏,‏ التجمعات الاقتصادية القائمة مثل ميركوسور أو المزمع اقامتها كما بين دول آسيا الوسطي في اطار منظمة شنجهاي للتعاون ثم الاتحاد الاوروبي كلما يحاول تحديد توجه مستقل واضح‏.‏

قال صاحبي‏:‏
ها هم قادة العرب يتجهون إلي اجتماع الزيف في أمريكا أتساءل‏:‏ هل تراهم يفكرون كيف يمكن الافادة من جديد العالم وقد دخل مرحلة مابعد القطبية؟ أم ماذا؟